اسد زين غندور
إنّ روح التحليل والبحث والاستقراء والتمحيص هي روح عصرنا الحاضر، الذي يقبل أي شيء على اطلاقه. إنه عصر الظمأ للقناعات، والجوع للحقيقة الغير مكتملة على الدوام. والقرن الحادي والعشرون كلّه أسئلة ونزوع إلى الحقيقة. فكل شيء حتى النقد ذاته يخضع للنقد.
تشتق كلمة نقد من كلمة يونانية تعني “حكم”، والنقد بمعناه الواسع (حكم… محاكمة)، ولهذا السبب لا يوجد نقداً للأعمال الفنية والأدبية وحدها، وإنما يتجاوز النقد ذلك ليطال كافة المواد التعليمية والاقتصادية والتاريخ والمجتمع والسياسة… وغيرها. فالنقد هو أحد خصائص وظواهر العقل العقلاني الحديث، وهو أحد الأركان الأساسية للفكر المعاصر.
إنه قرينة ملازمة لكل المجتمات التي وضعت قدمها الأولى على طريق النهضة والثورة العلمية والصناعات المتطورة والتقنيات الحديثة والمتجددة.
النقد، لا يعني الهدم فقط، بل يتبع ذلك إلى التقويم وإعادة البناء، والمساعدة على الخلق والابتكار والإبداع. إنه مرحلة متقدمة على طريق نضوج العقل وتفتحه على حقيقة العالم والوجود، والمساعدة على كشف ومعرفة ألغاز الكون بكل مكوناته ومبهمات الطبيعة بكل تجلياتها.
في المفهوم الثوري المتمرد على الواقع، يتطابق النقد دائماً مع الظواهر التي يحاكمها. لهذا السبب يعتبر وعي للواقع والغوص في أعماقه وتحليله من جهة، وامتلاك القدرة على إعادة تركيبه وبنائه من جديد من جهة ثانية، وعدم النية والخلط بين ما هو رئيسي أولي وما هو ثانوي وجزئي، أو بين القوانين الثابتة والظواهر المتغيرة.
إن ما يهمني في هذا المقال هو النقد السياسي. على اعتبار أن السياسة تشكل علاقات موضوعية وعلم وفن في حشد وتنظيم وتحريك القوى البشرية، واستثمار وتوظيف الموارد الطبيعية، من أجل الإقلاع بالمجتمعات نحو المزيد من التطور والنهضة والتحديث، وبالتالي، الثورة.
عندما أقول النقد السياسي، أقصد النقد الشامل والجذري المستند إلى وعي الواقع، والذي ساهم في زلزلة المجتمع الراكد والآسن على مدى طويل من الدهر، كمجتمعنا العربي بشكل خاص، ومجتمعات البلدان المتأخرة بشكل عام. حيث لا يجوز، في مثل هذه المجتمعات، تجاوز مجتمع ما بدون تفنيده ونقده. وعملية النقد الصارمة يجب أن تخترق المجتمع بكل مكوناته، ولا أن تطال مجرد السقف السياسي فقط، بل أن تطال المجتمع أفقيًا وعاموديًا، طولاً وعرضًا، بلا تدليس ولا نفاق ولا مجاملة، وآن لنا، نحن دعاة التغيير، أن نكف عن الخيال والوهم الذي يعتبر النقد الذاتي صنواً للتخريب ومدعاة لزرع الإحباط بالأمة، وبذر الشكوك واليأس في مقدرات الإنسان العربي.
السؤال الذي يطح نفسه، هل نملك نحن العرب مفهوماً علميًا للنقد الذاتي والموضوعي، أو للنقد السياسي على المستويين القومي والدولي؟
إن الوعي السياسي لدى معظم الكتل والأحزاب والمثقفين العرب هو وعي كاريكاتوري، وحيد الجانب.
استهدف في نقده السطح السياسي والمظاهر والنتائج وتجنب نقد الجذر، الأسباب التي أوصلت إلى هذا السطح كما هو، وتخلى نقدنا عن نقد تركيبة المجتمع وبناه وعلاقاته وقاعدة تفكيره وذهنيته وسلوكه وثقافته وأعماقه المفوّتة العتيقة البالية التي طالها التآكل والإنقراض، وبقى المجتمع بمنجاه عن مبضع النقد، الذي يُفترض فيه التشريح والتفنيد والدحض وطرح البديل.
عند الكثيرين من النقاد العرب، يعني النقد: التشنيع، الشتم، التقاط الزلات والمزالق، رصد الهفوات… زد على ذلك، أن بعضهم يسمي الذم والهجاء والإستهزاء والقدح المشين، نقداً. وحتى في الأوساط الأقل تخلفًا، تسمي النميمة والفخر والاعتزاز بالنفس والتقولات والكذب والتدليس، نقداً
كثيرون هم الذين يفهمون من كلمة (النقد)، أما إدانة الظاهرة المدروسة، أو فصل ما هو سمين عمّا هو غث، أو ما هو جيد عما هو رديء، أو التركيز على السلبيات، أو غربلة الأفكار الأساسية وفرزها عن الأفكار الثانوية، أو فصل الفكرة الأساسية عن فروعها… وهذه أحط فكرة عن النقد.
حينما نقد المثقفون العرب البلايا والهزائم الساحقة التي حلّت بالأمّة، على مدى عدة مراحل تاريخية، كان نقدهم لها قطعياً وأحاديًا ومطلقًا، يتجه بخط مستقيم ويمتزج فيه العقل بالعاطفة. فالعقل عندهم يبرر، والعاطفة تجمع بعيداً بلا عنان للجمها. وعلى سبيل المثال: هزيمة عام 1948 المشينة أمام عصابات الحركة الصهيونية، هي بنظرهم خيانة؟ وهزيمة عام 1967 سماها معظم المثقفين العرب والأحزاب السياسية، نكسة، فاكتست الهزيمة التاريخية طابعًا عارضيًا وسطحيًا. حرب تشرين 1973 سُميت بالمجيدة، وصّورت هزيمة للعدو الصهيوني وانتصاراً مؤزراً للأنظمة العربية، وهي بالفعل نصراً سلبياً لنا، بمعنى أننا لم ننهزم أمام العدو، والعدو لم ينهزم أيضًاً. والحرب الأهلية الطائفية التي شهدها لبنان على مدى خمسة عشر عاماً، كانت بنظر البعض حربًا وطنية ضد قوى انعزالية، ودفاعًا عن الوجود الفلسطيني، وانطلاقة نحو التغيير. وبنظر البعض الآخر حربًا دفاعية عن الذات، وضد التدخلات الخارجية، وضد قيام كيان طائفي مسيحي… ولم يشر إلاّ القليل منهم على أنّ هذه الحرب نشأت نتيجة تكوين قيصري غير طبيعي للبنان، حيث كانت مرتكزاته طائفية مبنية على توازنات هشة، وأن أي خلل بهذه التوازنات لأي سببب من الأسباب، يدفع إلى حرب أهلية مدمرة، الهدف منها إعادة التوازنات إلى ما كانت عليه، مع بعض التعديلات غير ذات الأهمية. كما أن غزو إسرائيل للبنان صيف عام 1982، وسحق بنى المقاومة الفلسطينية على أرضه، وهدم لبنان وإحتلال أكثر من نصف مساحته، بما فيها العاصمة بيروت، وتعميق الإنقسامات الطائفية… زركشها العقل العربي، وإذا بإسرائيل، تتحول بنظرهم، إلى جيش مهزوم ومجتمع مأزوم وشيك السقوط… وعلى مدى ثمانية وعشرون عاماً مضت… لم يسقط. إن نقدنا للهزائم التي لحقت بنا كان مسطحاً، تبريريًا فاسداً. صورها عقلنا كمجرد خيانات أو مجرد تعثر، وفسرها البعض الآخر أخلاقية: البعد عن الدين، تفشي الكذب. ونقدنا للإمبريالية وللغرب كان عبارة عن شتم ومهاترات جانبية وسطحية، هذا النقد لم يميز بين الغرب العدوان ومحاصرة الشعوب واستعمارها واستغلال ثرواتها، وبين الغرب المتقدم والمناهج العلمية، والسلوكيات العقلانية، والرقابة والمحاسبة، واحترام القانون وقيمة الشغل.
وفي لبنان، في مواجهة منظومة الفساد القائمة، وفي الرد على الإنهيار المالي والاقتصادي، طُرحت برامج تحمل شعارات فضفاضة، ومطالب سياسية واجتماعية، يريدونها من منظومة ماتت وانتهت وعاجزة وتابعة للخارج، ولم يُطرح برنامج مرحلي لفترة انتقالية يتم خلالها التركيز على إعادة بناء الدولة وتكوين السلطة التي من خلالها تتم المطالبة والنقد والمعارضة أو الموالاة…؟. كان النقد منصبًا على السلطة الفاسدة، وهي فاسدة بالفعل، دون الغوص في تركيبة هذه السلطة وجذورها التاريخية، والتدخلات الخارجية، والمشاريع المطروحة للمنطقة ودور لبنان في تحقيق هذه المشاريع…؟
إنّ النقد موقف فكري، هو تعبير عن إيديولوجية معينة وثقافية خاصة، إنه أمانة ومسؤولية لأنه يُقيّم أعمال وممارسات وأفكار الآخرين على مختلف مستوياتهم: الدولة وأجهزتها، الأحزاب السياسية وبرامجها، الهيئات والأوساط الفكرية والثقافية ومناهجها.
ولا بدّ للنقد أن يقترن بالموضوعية والمنهج، إذ بدون الإستناد إلى منهج يصبح النقد السياسي والأدبي والعلمي مجرد مشاعر وانطباعات شخصية، حيث يبتعد عن الحقيقة ويجافيها، دون التسلّح بمنهج يضبط حركة النقد وايقاعاته.
لا يمكن أن يكون النقد مجديًا وفعالاً إلاّ إذا إستهدف من طموحاته خلق مجتمع تسوده العلاقات الإنسانية المتكافئة، بما يكفل مزيداً من التطور. فهو موضوع بشري – إنساني يتعلق بالإنسان وحده بسبب علاقته العضوية بمجربات الحياة في الماضي والحاضر والمستقبل، لأن الغاية من النقد هو تحديث الأمة وتجديد عمارتها، والإرتقاء بطاقات وقدرات الفرد والمجتمع ودفعها على طريق التغيير والتحول الإيجابي حيث تبقى مقاصد النقد تقديم العملية الإيجابية وترقيتها.
لذا، فالنقد يجب أن تسنده أرضية أو خلفية ثقافية غزيرة وصلبة، ووعي ومعرفة شموليين تاريخي وكوني. وهو نظرة شمولية تتناول العام والخاص، وبطرق كل الأبواب الموصدة، وهذا النوع من النقد يعبر عن مرحلة نضوج العقل وتفتحه على حقيقة العالم والوجود التي بدأت تشق طريقها منذ نهاية القرن الخامس عشر وبداية القرن السادس عشر الميلاديين، التي تلمس فيها المجتمع البشري في الغرب طريق النهضة والتقدم من جهة، وفك ألغاز الطبيعة والكون تدريجيًا عن طريق مواجهتها والعمل لتذليل صعوباتها والتأثير فيها من جهة أخرى. أو ليس المادية التاريخية هي الصراع بين الإنسان والطبيعة المحيطة به؟
فالنقد السياسي مرحلة راقية، ناضجة، متزنة، وصل إليها العقل الإنساني خلال صراع مرير وطويل وشاق، وقدّم تضحيات جسام، منذ بداية القرن الخامس عشر وبداية القرن السادس عشر، واستمر إلى القرن التاسع عشر، وما يزال يتطلع إلى الكمال، لأن العقل لا يعترف بحقيقة مسبقة أو معروفة أو تعاليم ظاهرة من ظواهر الواقع إلاّ حين يجد فيها صورته، ذاته، كما يوجد المضمون في الشكل.
والنقد الحقيقي، لكي يكون بناءً ومؤثراً، لا بدّ أن يتوفر له مناخاً ديمغرافيًا نسبيًا، لأن ضيق ساحة النقد أو اتساعها مؤشر على المستوى الحضاري الذي وصله شعب أو أمة أو مجتمع ما، بلغ حالة متقدمة من الإستقرار والتوازن الاجتماعي والإقتصادي والثقافي، لأن النقد عندئذٍ يُعتبر واجباً وضرورة وطنية وقومية وأممية. فهو واجب لا يستهدف شخصًا معينًا أو فئة خاصة فقط، بل يتوجه لتشريح نهج وأبنية وآفاق وخطوط سياسية، ومؤسسات ونظم، هي أجزاء من نسيج إجتماعي ليس فوقه ولا خارجه.
إنّ النقد السياسي هو محور مركزي في إيديولوجيا أي طليعة ثورية. وإنّ شعبًا تهيأت له طليعة ثورية وعقلانية، تملك وعيًا مناسبًا ومتطابقًا، كونيًا وتاريخيًا، وحده القادر على انتشال الأمة من قاع التأخر والتخلف التاريخيين، لأن كل عملية ثورية في بلد متأخر (والنقد الثوري في مقدمتها) لا بدّ أن تبدأ باستيعاب وتشرب القيم والمناهج الحديثة. لذا يجب أن يتوجه النقد إلى التأكيد الأولي على موضوع الحداثة الإيديولوجية (وليس الحداثة النقنولوجية)، إلى التأكيد على العملية الثورية، حيث من الصعب تصور ثورة راديكالية حقة بدون وعي نقدي.
إنّ الوعي النقدي هو وعي قتالي بطبيعته، وهو وحده القادر على التغلغل إلى جذور وخلايا ومسام الإيديولوجيا العربية الرائجة والمهيمنة بفرعيها التقليدي والتقليدي الجديد، وتعريتها وإسقاطها. إن أحد مقومات النقد السياسي هو وجود العقل النقدي الذي يلتصق بالحقيقة الواقعية ولا يخلط بين حكم القيمة وحكم الواقع.
في مجتمع متخلف، يكفي أن يُترجم النقد النظري إلى عمل حتى يتحول إلى إقتتال ومذابح وإنقسام وتشرذم. والنقد عند غالبية الأحزاب ومعظم السياسيين والمثقفين العرب، بل في أي مجتمع ما دون قومي، هو إنعكاس لكل مظاهر التخلف، كالتناحر الطائفي أو المذهبي، والتناحر الحزبي الضيق، والأحقاد والضغائن العشائرية والقبلية، والإنحياز لطرف، وإلاّ زورار عن الحقيقة، وطمس الواقع، وتبرير جرائم ومظالم الطغاة من الحكّام، والقفز فوق الأخطاء، والانحراف ففي الذاتية وحب الأنا، وتهوين حجم المصاعب، بل وتسويقها في مناسبات عديدة. فالنقد لدينا هدم وليس بناء، كما أن تباين وجهات النظر وتعدد أوجه (النقد) ليس من أجل صياغة موقف بناء وفكرة موّحدة، بل من أجل تعميق الشقاق ورعاية بذور التأخر. لذا تبدو صورة الوعي النقدي العربي مزيجاً مركباً من الرغبات والمشاعر والإنفعالات والأحاسيس المبهمة الذاتية، مندمجة بالموضوع والموضوعية، مُغلبة حكم القيمة على حكم الواقع، مركزة على السلبيات، متمسكة بكل ما هو جانبي ومتجاوزة كل ما هو إيجابي.
والآن، وعلى الرغم من أننا في القرن الحادي والعشرين، عصر استثمار القضاء وعصر الروبوت (الإنسان الآلي)، إلاّ أنّ وجودنا بقي ماديًا وكميًا، ولم يتحول بعد إلى وجود نوعي عقلانيًا. لذلك، فإننا لا زلنا لا نملك نهجاً نقديًا حقيقياً، بل يغلب على مواقفنا وممارساتنا التسرع والانفعال والرعونة وردات الفعل الآنية والهستيرية، ويمكننا تسمية النقد السياسي الرائج اليوم بـ (القذف) العاطفي – الطفولي، وليس المحاكمة – أو الحكم العقلاني – الواقعي الثوري.
فلا نقد بلا معرفة، ولا معرفة بلا وعي، ولا وعي بدون انتماء قومي وعالمي.