كتب اسد زين غندور
مما لا شك فيه، ان امتنا تعاني جملة انقسامات مجتمعية عامودية عميقة الجذور ، ومن تأخر تاريخي على كافة المستويات : الاجتماعية والأقتصادية والثقافية والتربويةوالبنيوية وبالتالي السياسية ، مما سهل ومهد لاغتصابها ولقيام الدولة الصهيونية العنصرية الاستيطانية في وسط هذه الأمة من جهة، وابقى هذه الدولة _ الكيان المصطنع تنمو وتكبر وتهيمن وترتكب المجازر بحق شعبنا، من جهة أخرى، في الوقت الذي بقيت فيه أمتنا،،بشكل عام، تنهزم وتنهار وتتحاصر ، وتكاد تتلاشى أمام ضربات العدو وسياساته التوسعية القائمة على القتل والدمار والتشريد.
ان هذه الأمة، الواقعة في منطقة جغرافية استراتيجية في وسط العالم ، الامة الممتدة الاطراف بين قارتين من الكوكب: اسيا وافريقيا، والغنية بقدراتها وامكاناتها وثروتها الاقتصادية والبشرية ،كانت ولا تزال محط اطماع القوى الاستعمارية ، بشتى اشكالها القديمة والجديدة، ومراحلها التاريخية . تلك القوى الراسمالية الحريصة بشكل دائم على فرض هيمنتها المنحطة على شعوب العالم، والتي لا تزال تكرر ممارسات التحكم والاستغلال، وتعد المشروع تلو الاخر لاستمرار واعادة انتاج هيمنتها على امتنا ونهب خيراتها وابقائها غارقة في وحول الانقسام والتفتت والتأخر.
وبالرغم من الانتصارات التي حققتها الأمة بين فترة واخرى ( الانتصار الكبير الذي حققه شعبنا المقاوم في لبنان على ارض الجنوب اللبناني، وتمكنه من دحر قوات الاحتلال عن معظم الاراضي اللبناني المحتلة ، والانتصارات التي تحققها مقاومة الشعب الفلسطيني البطل على ارضه المغتصبة وتسطيره الملاحم البطولية في وجه أعتى قوة عسكرية تدميرية واشرسها..، خاصة ما يقدمه المقاومون الابطال في غزة تحديدا وفلسطين عموما ،وفي لبنان واليمن والعراق وسوريا،من مقاومة باسله خلال الأشهر الأخيرة ، والتي تبشر باندحار العدو ،والبدء بالعد العكسي لانهيار الكيان الصهيوني وازالته…) ، بالرغم من هذه الانتصارات وغيرها، الا ان الأعداء التاريخيين للامة، من استعماريين وصهاينة وعملاء ورجعيين، لا زالوا،لغاية الأن ، يعدون المشاريع والعدة للمزيد من التسلط والهيمنة والسيطرة ، باشكال مختلفة.
وعليه، سألقي الضوء، في هذه المقاله، على اهم التحديات الراهنة التي تواجهنا، ودور المثقف العربي في مواجهة هذه التحديات.
اولا _ التحديات الراهنة:
في خضم هذا الوضع،تواجه الامة جملة من التحديات الخارجية والداخلية.
خارجية نتجت وتنتج من خلال صراع الأمم وتنازعها وغلبة القوى الاعظم ، في ظل غياب منظومة عالمية قادرة، حتى الان ، على لجم هذا الصراع ووضع حد للنزاعات الدامية والمدمرة وللمشاريع الاستعمارية المتواصلة والمتجددة ولسياسات الدول المهيمنة بالقوة والقائمة على النهب المتواصل لخيراتنا. وتحديات داخلية مركبة ، ناتجةعن عوامل ذاتية تكمن في بنية المجتمع العربي وعمارة هذا المجتمع المتصدعة ، وعوامل موضوعية مصطنعة تتداخل فيها سياسات الأنظمة الأستبدادية والنهابة والعميلة، مع غياب الحركات السياسية الوازنة والفاعلة والقادرة على احداث تغيير حقيقي في عمارة المجتمع وبنيتة و في شكل السلطات المتحكمة،وتعديل موازيين القوى ، في ان واحد.
أما التحديات الخارجية، فيمكن تلخيصها بما يلي :
١_ قيام دولة العدوان الصهيونية الاستيطانية في وسط هذه الامة. هذه الدولة التي تمثل بسياستها العدوانية الدائمة اعتى وأشرس قوى استعمارية في العالم الحديث . انها الدولة الضفدعة التي تمكنت ان تغلب الفيل العربي الضخم ، وان تدوخه وتهزمه في كل مرة حاول فيها هذا الفيل ان يقف على قدميه ويستعد للجولة الجديدة.
٢_ المشروع السياسي الاميركي الجديد للهيمنة على العالم بأسره واخماد كافة البؤر الوطنية والثورية وحركات التحرر العالمية عامة، وحركات التحرر العربية بكل تنوعاتها وتفعيلاتها ، تحت شعار العولمة ، ووحدانية القرار السياسي للدولة المركزية الامبريالية في العالم ،اميركا. رغم كل ما يجري من محاولات لاعادة التوازن في العالم وانتاج احلاف جديدة تناهض اميركا ومخططاتها وهيمنتها، والدخول في صراع اقتصادي ، واحيانا عسكري معها، وتنامي هذه الاحلاف وتوسعها لتشمل دول واسعة وقوية وقادرة على التاثير.
٣_ سياسة العولمة التي تتبعها الرأسمالية العالمية الجديدة، ومخططاتها في القضاء على نسبة كبيرة من سكان العالم، بالحصار والتجويع والامراض والاوبئة من جهة، وتفتيت البشرية وانتهاك المقدسات وتخريب المجتمعات والعلاقات الانسانية والقيم الاخلاقية، بما يخدم الاقلية التي لا تشكل اكثر من واحد بالماية من عدد سكان العالم وهيمنة شركاتهم العظمى على اقتصاديات العالم، والتحكم بمسارات التطور والتقدم، وضرب كل مؤشرات تساهم بامكانية فعل استراتيجي للحد من تداعيات سياساتها التخريبية المدمرة.
٤_ تطويع معظم الانظمة العربية ،والهيمنة على السلطات القائمة ونزع حرية قراراتها والحؤول دون اية اجراءات تصب في خدمة ما نطمح اليه من تحرر وتقدم. وانتشار القواعد العسكرية بكل ما تحتويه هذه القواعد من ترسانات السلاح بمختلف انواعه ، واستخدامها لردع كل جهة تفكر بالاقدام على اية اجرءات معادية.
اما التحديات الداخلية ، فهي متعددة الاوجه ، وعميقة الجذور ، اهمها :
١_ تحدي المشروع القومي العربي التحرري الوحدوي في مواجهة التجزئة والانقسامات المجتمعية ما قبل القومية : الطائفية…القبلية…النزعات الاقليمية…والنزعات العشائرية والمحلوية…ازمة الاقليات الدينية والقومية .
٢_ تحدي مشروع قيام الدولة الوطنية الديمقراطية في مواجهة الدول الاستبدادية والانظمة الشمولية ، بشتى تسمياتها وشعاراتها الخادعة.
٣_ تحدي الحركات السياسية الوطنية ، التقدمية منها والاصلاحية ، في مواجهة الانظمة الفاسدة وكل اللصوص المتربعين على كراسي السلطات ، في ظل القوانين التي هم صاغوها بايديهم لحماية عروشهم ومخادعهم وممتلكاتهم المنهوبة ، واوباشهم وجلاديهم ، واولادهم الذين سيرثوهم من بعدهم بكل تركاتهم العفنة من مال وسلطة وقوانين ومؤسسات مهترئة وشعب مستكين ومخدوع.
٤_ تحدي المشروع الاقتصادي الاصلاحي والتغييري في مواجهة الضائقة الاقتصادية الخانقة والفقر الفادح والمتنامي، وظواهر التسول التي تنمو بشكل مخيف وتتحول الى ظاهرة منتشرة في كل حي وشارع وامام ابواب السلاطين والمتحكمين والأوباش ، من اليمين المتطرف التقليدي القديم والجديد واليسار التقليدوي الجديد الذي وضع كل اوراقه بوعي او بدون وعي ، بخدمة المشروع الغربي وادارته وخزعبلاته تحت مسميات المجتمع المدني .
٥_: تحدي المشروع القومي النهضوي لبناء الدولة القومية الديمقراطية الحديثة والمعاصرة في مواجهة التأخر التاريخي الشامل الذي ينخر عقولنا ومؤسساتنا وحركات شعوبنا القاصرة.
٦_ تحدي المشروع الاندماجي النههضوي القادر على فهم واستيعاب أزمة الاقليات الدينية والقومية، والعمل بوعي وبنفس طويل ، على تجاوزها بعد حلها ، والدفع بها للاندماج في بنية المجتمع الاكثري والتناغم معه في المصالح المشتركة والمصير المشترك، في مواجهة كل السياسات التفتيتية التي تدفع بها طبقات وحثالات ترى في اندماج المجتمعات وتقدمة مقدمة للحد من سلطاتها وسياساتها التدميرية.
٧_ تحدي مواجهة السلطة الذكورية السائدة بشكل واسع في مختلف المجتمعات العربية ومؤسسات هذه المجتمعات ومدارسها وثقافتها. والنظرة الدونية للمرأة، تحت حجج ايديولوجية واهية وعفنة، واستلاب المراة حريتها والحد من ابراز وتظهير قدراتها ومساهماتها في تحديث المجتمع العربي، وبالتالي العقل العربي ، مما جعل نصف المجتمع معطلا، ناهيك عن العطالة التي تصيب النصف الثاني من المجتمع.
٨_ تحدي مواجهة النزعات السلفية التي انتشرت بشكل واسع في السنوات الاخيرة على اعتاب فشل وضعف القوى الوطنية والقومية النهضوية والتقدمية ، والغرق في بحر من الازمات االمتتالية.
تلك النزعات التي خربت العقل العربي ، وسفهت كل الأيديولوجيات التقدميةبشكل عام ، والفكر العلماني الانساني بشكل خاص، وشوهت مفهوم وغاية العلمنة واعتبارها فكرا ملحدا وخارجي عن قيم وعادات وتقاليد مجتمعاتنا والفكر الديني السائد ، دون الغوص في تحديد المفهوم ووعيه بما يناسب مصالح الامة في الاندماج والوحدة .
ان هذا التعداد ، العناوين للتحديات الراهنة، كان على سبيل التعداد والمثال وليس الحصر ، وان هناك علاقات جدلية محبكة بشكل جيد بين كل هذه التحديات. فالواحدة منها مرتبطة بالاخرى ، داخلية كانت ام خارجية، ولا يمكننا التغاضي عن هذا التحدي للتفرغ في مواجهة غيره، لانه لا يمكن الفصل بين مجمل التحديات ولا يمكن مواجهة اي منها بمعزل عن مواجهتها كلها مرة واحدة وبدون تمييز ، بعمل يومي وبمشروع متكامل، وقوة قادرة على الفعل والتإثير .
الا انه يجب ان نلفت النظر بان الحلقة الاقوى والمركزية من هذه التحديات تتمثل بحالة التاخر التاريخي العميق الجذور الذي تتسم به امتنا قياسا بالأمم الاخرى المتقدمة.
والتأخر، هو الركن الاساس والمرتكز الذي ترتبط به ، بشكل او بأخر ، وتنتج عنه كافة التحديات الأخرى. والتأخر يطل كل بنى المجتمعات العربية ومؤسساتها وعلى رأسهاالمؤسسات الثقافية والفكرية والتربوية .
وهنا ، لا يسعني الا التذكير باستنتاجين لشخصين معاديين لأمتنا :
الاول ، حيث جاء في خطاب ل” بن غوريون” ، رئيس اول حكومة صهيونية بعد احتلال القسم الاكبر من فلسطين ،ألقاه امام ضباط الهاغانه ، التي تحولت فيما بعد الى ما يسمى جيش الدفاع الاسرائيلي، وذلك بعد توقيع اخر اتفاق للهدنة مع الانظمة العربية العميلة والخانعة والمستسلمة في نيسان عام ١٩٤٩ ، حيث قال :
” … ان ما تحقق لنا هو نصر تاريخي عظيم للشعب اليهودي كله، كان اكبر مما تصورناه وتوقعناه. ولكن ، اذا كنتم تعتقدون ان هذا النصر قد تحقق بفعل عبقرياتكم وذكائكم فإنكم على خطأ كبير…انني احذركم من مخادعة انفسكم . لقد تم لنا ذلك لان اعداءنا يعيشون حالة مزرية من التفسخ والفساد والانحلال والتاخر….”
لقد لخص بن غوريون البلايا العربية باحكام ، فهنا ولدت الهزيمة العربية ، ومن هنا ستستمر وتلحق بنا الهزائم..ومن هنا علينا البدء بتصفية كل العناصر التي سببت الهزيمة .
والثاني، جاء على لسان وزير خارجية رئيس اميركا نيكسون، السيد هنري كيسنجر، عندما كان يكتب مذكراته ، واصفا الظروف التي سمحت لأمريكا والامبريالية العالمية ان تنجح في سياساتها الشرق اوسطية، حيث كتب: ” ان الطحالب لا تعيش الا في المياه الأسنه الفاسدة ، مشبها العرب بالطحالب، والمجتمعات العربية بالمياه الأسنة القذرة. وهذا يمثل وصفا دقيقا لواقع المجتمع العربي وللسياسة العربية الموحلة التي تسمح لكل الحشرات والطحالب من ان تخترقها وتهزها في كل حين.
ثانيا_ دور المثقف العربي في مواجهة التحديات .
قبل الخوض في. هذا الجانب ، لا بد من طرح الأسئلة التالية :
_ هل يمكن لنا ان نلعب دورا” مميزا” وفاعلا” في مواجهة التحديات التي ذكرت ، والتي يخطط لها ويطرحها ،بالجملة ، في وجهنا الاخرون ؟.
_ من هي القوى الحية القادرة على لعب هذا الدور ، في هذه المرحلة ،الشديدة التعقيد، بالذات.؟.
_ ولماذا فشلت هذه القوى عن لعب دورها وأخذ زمام المبادرة خلال التجربة التاريخية لشعبنا العربي ؟ . وهل ،اذا اقحمنا أنفسنا في نقد الواقع العربي والتجربة التاريخية لقوانا الحية، نكون قد وضعنا أصابعنا على الجرح ، وسمحنا لأنفسنا بامتلاك وعي أخر ، وعي مطابق للواقع ولحاجات شعوبنا ،وعلى مستوى التحديات…؟.
في البداية اريد ان انوه ، ان التجربة التاريخية، لأي شعب من الشعوب ، هي جملة المشاكل التي كان عليه ان يواجهها، المعارك التي كان عليه ان يتابعها ويخوضها، الاخفاقات التي يحتفظ بذكراها، والانتصارات التي احرزها….انها جماع حركة كل الشعب على مختلف المستويات والأصعدة.
وفي التجربة التاريخية لشعب ما ، في سيرورة تطوره : صعودية كانت ام انحدارية ام ركودية ام قهقرية ، ليس ثمة ما هو صدفي وعجائبي. ثمة منطق عقلاني يحكم مجرى التطور التاريخي لأي شعب من شعوب العالم . والتحليل العلمي يكشف لا عجائبية أية ” اعجوبة ” او ” صدفة ” أو ” عثرة” تاريخية. واذا حدثت “أعجوبة ” ما ، فلن تلبث عقلانية التاريخ ان تمحوها. فالتيارات العميقة للتطور التاريخي تجرف كل ما هو عارض وسطحي .
ان قيام دولة الكيان الصهيوني على ارض فلسطين لم يكن صدفة ، وان استمرارها هذا الكم من الزمن، خمسة وسبعون عاما، ليس أعجوبة . لقد قامت الدولة الصهيونية الغاصبة على أنقاض التأخر العربي اولا،و بشرعية دولية متحكمة في العالم ثانيا. قيام دولة اسرائيل يعتبر بمثابة جزاء تاريخي للتقليدوية العربية ونتيجة للهيمنة الأمبريالية على العالم ، وستبقى هذه الدولة المصطنعة ما بقيت هذه التقليدوية مهيمنة على الفكر العربي وعلى المجتمع العربي، وما دامت الهيمنة الدولية الامبريالية قائمة. وستزول مع زوال هذا الفكر على المدى التاريخي وامتلاك القوة والقرار والقدرة الشاملة على الفعل، واجراء متغيرات في موازين القوى الدولية ووضع حد لسياسات الهيمنة والتسلط والتدخل في مصائر العالم.
الا انه يمكنني القول،انه على المدى التاريخي ، لن تنج اسرائيل من الزوال مئة امبريالية اذا بزغت نخبة عربية حديثة وتقدمية وعقلانية ومستقلة بقرارها وسلطتها .
الامبريالية الأميركية ،وكل الدول الغربية التي تدور في فلكها ،لن تستطيع ان تحمي الكيان الصهيوني،مهما قدمت من رعاية وتدخل ومساعدة. التأخر العربي والتفتيت العربي والانصياع العربي للخارج، هو وحده الذي حمى ويحمي وسيحمي هذا الكيان من الزوال.
كما ان التحربة التاريخية لشعب ما ، كما يقول ” جان شينو ” في كتابه ” مساهمة في تاريخ الأمة الفيتنامية ” ، ان ” التجربة التاريخية الفيتنامية لا تتجلى على مستوى القادة السياسيين وحدهم،مهما كانت هامة وأساسية التحليلات التي يأتون بها والتوجهات التي يصدرونها . التجربة التاريخية تتدخل في الواقع على مستوى الناس البسطاء ، تحدد قدرتهم على التدخل في شؤون البلد، وفي النهاية تحدد نجاح او اخفاق الستراتيجيات السياسية المعدة من قبل الزعامة السياسية “.
ان هذا التوصيف الموجز للتجربة التاريخية لشعب ما ، يدفع الى القول بأن التجربة التاريخية للشعب العربي في مواجهة المعضلات التي تواجهه من جهة، ومن أجل ارساء نهضة عربية شاملة من جهة أخرى ، وبالفشل الذي وقعت به، وبالانتصارات التي حققتها….هذه التجربة هي من صنع كافة شرائح هذا الشعب بمختلف مستوياته الفكرية والاجتماعية والطبقية والسياسية. الا ان فشلها او نجاحها،يقع بالدرجة الاولى ، على عاتق الحركة الثقافية العربية التي أخفقت في وعي واقعها وفي ممارساتها ، وتحولت رهينة للعزوف واللامبالاة والسعي وراء الخلاص الفردي ،ولو على حساب الأخرين. وعندما ترتفع الحركة الثقافية للشعب العربي من درك عدم وعي أهمية الاندماج القومي ، ومن درك وعي او عدم احترام الحقوق العامة ( أي حقوق الأخرين ، وبالتالي حقوق المجتمع بأسره والأمة جمعاء) ، عندما ترتفع الى هذا المستوى من الوعي ، تكون فعلا” اصبحت في حالة تؤهلها للخروج من علة التأخر الذي تعانيه، وتصبح قادرة على تحديد البرامج والمنظومات الفكرية التي تعكس تلك البرامج في سياق مواجهتها للتحديات المصيرية التي تتعقبها.
وعندما اقول الحركة الثقافية للشعب العربي، اقصد حركة الناس المثقفين من مختلف الطبقات الاجتماعية الذين التزموا بقضايا الناس وقضايا كل شعبهم وقضايا امتهم ، وامتلكوا وعيا” لهذه القضايا ، وعبروا عن هذا الوعي وذاك الالتزام بانخراطهم اليومي والطوعي والقاسي والطويل في مسيرة بناء الدولة القومية الموحدة القوية والمستقلة ، الدولة القادرة والعارفة كيف تستغل طاقاتها وإمكانياتها الهائلة التي بحوزتها، وان ترهب المعتدي وتحول دون تحقيق مشاريعه العدوانية على الامة بكاملها.
ان الصدمات العديدة التي تلقيناها ولا نزال من كتلة ما يسمى الانتلجنسيا العربية ، اي حركة المثقفين العرب، في تعاملها مع الواقع ومواجهة التحديات المصيرية ، تسلط مزيدا من الضوء على مشكلة التأخر ، مشكلة قد تلتقط نظريا” ، لكن لم تكن لتكتسب هذه الحدة، المرارة ، الوضوح والعيانية لولا تلك الصدمات.
في السياسات العربية ،نحن لسنا ازاء اخطاء فحسب ، بل ازاء تاخر…..لسنا ازاء سياسات يمينية فقط بل ازاء سياسات لا عقلانية…لسنا ازاء تأخر الاقليات المهيمنة فقط بل ازاء تأخر البنية السياسية العربية بجماعها….وبكلمة : انها “سياسات قرية في عالم مدن ” كما يقول المفكر العربي الراحل، استاذي، ياسين الحافظ.
هذا التشخيص قد يبدو صادما” للبعض، ليكن، ولكن علينا مواجهة الحقائق الواقعية كما هي وتجنب التهوين، كالعادة، من حجم وعمق المشكلات التي نعاني.
علينا ان نعرف ان الطريق طويل، المتاعب شاقة، والجهود المطلوبة كبيرة ومتعددة الوجوه؟. وينبغي ان نعي أن الاخفاقات التي لقينا ستليها، ما دام التاخر العربي قائما” ، اخفاقات اخرى قد تكون اشد وطأة علينا. ولن نقهر التاخر الا اذا وعيناه بجميع أبعاده ، وحددنا مفاصله، بدون تبسيط، وبدون تهرب ، وبدون مسايرة.
البعض، سيعتبر هذا الكلام تشكيكا” بالانسان العربي . هذه السمحة الميتافيزية الساذجة، وما اوسع انتشارها، لن تثني القومي العربي الديمقراطي العقلاني عن قول الحقيقة كما هي ،والمواجهة بكل ما يمتلك من امكانيات. فالانسان العربي ليس شيئا” متعاليا” فوق التاريخ. لقد مر في الماضي في أدوار مختلفة: ازدهار، ركود، تقهقر ،كذلك اليوم، سيتقدم عندما يتعلم ما هو التقدم ، وعندما يضع نفسه في سياق تقدم . كذلك هو سيبقى متأخرا” اذا لم يعرف كيف تقدم المتقدمون ، اذا لم يكشف اين و كيف يكسر حاجز التاخر ويكسره فعلا .
يقول ماركس :” لقد وجد العقل لدى الانسان على الدوام ، ولكن ليس دائما في صيغة عقلانية “. العقل الانساني واحد، والثقافة ارث مشترك لجميع الشعوب، والعالم موحد ويتوحد ، رغم الطابع التناقضي في وحدته، والشعب العربي جزء من هذا العالم الذي يتحرك للخلاص.
لا شك ان ثمة خصوصية عربية ما نجمت عن سيرورة التطور التي مر بها المجتمع العربي لا عن جوهر مطلق معلق فوق التاريخ. هذه الخصوصية، التي على المثقف العربي ان يعي كل معالمها لكي يستطيع مواجهة المتأخر فيها ، تندرج في سياق الكوني ، لا تفلت منه ولا تتعالى عليه.
من وهنا، من هذه الحقيقة الواقعية ، فضلا عن نضالات شعبنا الحية ، نستمد ثقة بالمستقبل العربي امتن وأكثر واقعية من ثقة تقوم على قبليات ميتافيزية ، عن انسان عربي متخيل ، ذي ماهية خالدة ثابتة محلقة فوق الواقع ، ومتسامية عليه، ينحط اذا انفصل عنها ويترقى اذا عاد اليها. ماهية يسميها البعض ” ارواح الأجداد ” .
هذا النمط الميتافيزي من الايمان بالانسان العربي ،عجز من جهة عن اعطاء أساس واع ودائم للالتزام بالشعب، ومن جهة اخرى ،لعب، بما ينطوي من قبليات اسطورية مجافية للعلم، دورا” كبيرا” في عجز العقل العربي عن اللحاق بالعصر. مما اثبت گم هو عميق التاخر الذي يسحق شعبنا.
انطلاقا” من هذه الحقائق المريرة التي يعانيها مجتمعنا العربي، وجملة التحديات التى تواجه أمتنا، المطلوب من المثقف العربي ألا يمنح نفسه لحظة من الوهم والخنوع ، الخشوع والاستسلام، انما يجب عليه ان يجعل التأخر والاظطهاد القائمين اشد وطأة بان يضيف اليهما وعي التأخر و الاظطهاد . عليه ان يجعل العار الذي يلاحقنا اشد شينا” وقبحا” بنشره على الملأ…عليه ان يعلم الشعب الذعر من واقعه كي يعطيه الشجاعة لمحاربة هذا الواقع والتغلب عليه واستبداله بواقع أخر اكثر اندماجا ” وتحررا” وتقدما”.