المداواةُ بالموت!
نزيه أبو عفش
ليست حروباً.. ولا هي شبيهةٌ بالحروب.
ليست حروباً. ليست عقاباً لجريمةٍ، ولا ثأراً لدمٍ، ولا نهياً عن معصيةٍ أو سعياً إلى ناموسِ عدالة.
أبداً، أبداً!.. إنها حفلةُ إعدام كونيةٌ تمتد من مشرقِ الكوكب إلى مغربِ الضمير:
إنها وليمةُ موتْ. وعلينا أن نشهدَ، ونبتلع الغصّةَ، ونبارك.
علينا، بكل ما أوتينا من فضائل العبيد، أن نُجَمِّل بؤسَ ضمائرنا بدماثةِ وصبرِ الكهنةِ والصيارفةِ والجواسيسِ و.. العاهرات.
وعلينا، حتى تقوم قيامةُ الديناصورات، أن نواصل تقديم ذبائحنا -ذبائح الدمِ واللحم والقلوبِ والعقائد والأفكار- لآلهةِ الإسطبل.. وأنبياء الإسطبل.. وأوثانِ الإسطبل.
علينا، إلى أبد الآبدين، أن نشكر سماحة مخلِّصنا الخالدِ الوفيِّ الرؤومِ: الموت.
00 00 00 00
منذ خمسين سنة (هي كامل حياتنا في هذا الإسطبل الكوني) ونحن نتابع الأخبار ذاتها، ونشهد الكوارث ذاتها، ونبتلع سمومَ الأباطيل ذاتها: أباطيل العدالة، أباطيل الحرية، أباطيل حقوق الإنسان..؛ على أرضٍ لا تعترف للإنسان إلا بحقه في الجنون.. أو حقه في الموت.
منذ خمسين سنة (قبلها خمسون ألف خمسين..) والحياة تتدهور إلى حضيضها الدامي، على مرأى من برابرةٍ وقديسين وفلاسفةٍ وأباطرةٍ -خصيانٍ بتيجانِ أباطرة- لا شأن لهم غير أن يجعلوا قاع الحضيض أعمق وأرهب وأكثر سواداً.
يطفئون الحرائق بنيران القذائف، ويداوون الخطايا بالجرائم، ويُكفكفون دموع البشر بدماء البشر!..
منذ خمسين.. هي كامل أعمارنا نحن شهودَ الخراب.
منذ خمسين أيتها الآلهة، منذ خمسين تقويماً، منذ خمسين قيامة، وهم يهدهدون آلامنا بالمجازر.. ويرقّعون ثوب حياتنا بالصواريخ والصلوات.. ويطفئون جنون أرواحنا بمزيد من الجنون.
وها هم، جميعاً، جالسون حول مائدة الموت. يشعلون شموعهم احتفاءً بما أنجزوه من خراب وكوارث وأهوال.. دفاعاً عن هيبة الحياة!
خمسون سنة (هي كامل أعمارنا) وهم يحكّون عقولهم بأظلافهم، ويحلمون باقتسام تركةِ الحياة.. على سقوفِ جبّاناتِ الموتى.
يتحدثون عن العدالة.. وكأن العدالة لا تتحقق إلا بالصواريخ وطوّافات “أباتشي” الممجدة.
يتحدثون عن الحياة.. وكأن الحياة لا تستقيم إلا بالكراهية والجنون وحصافة أدوات الموت.
ويتحدثون عن “جرائم الحرب”.. وكأن الحرب نفسها ليست جريمة.
بلى، الحرب ليست جريمة. الحرب صناعة الذكاء. الحرب صناعةُ آلهةٍ ورُسلٍ وقديسين.
منذ خمسين سنة ونحن نتفرج على الحرب، ونتابع أخبار الحرب، ونهلّل لجنرالات الحرب، ونبكي من “السعادة” اغتباطاً بإحرازِ أوسمةِ هزائمِ الحرب.
وها أنا أرى الحرب، على شاشة الفضائح التي أهدتها إلينا عبقرية صانعي الحرب.
ها أنا، من موضعي أمام شاشة العار والجنون، أُطِل على خراب الأرض.. وأتفرج على مآثرِ الحرب.
أرى الأنقاض. أرى الحرائق. أرى الأموات. أرى الجنون. أرى الغضب. أرى التعاسة: أرى عارَ الآلهة.
أرى بشراً يهيمون في شعاب الهلع، معلِّقين أبصارهم على ما لا يُرى؛ كما لو أنهم يترقبون ظـهور سفينةِ نوحٍ كونية تنقذ الحياة من أرباب الحياة.
وأرى طفلاً.
طفلٌ في الرابعة أو الخامسة، ينتصب في مقدمة مشهد الجنون، ضاحكاً، مزقزقاً، مرفرِفاً بأصابع يديه كما لو أنه يريد أن يرقص (بل هو يرقص..) ملوّحاً بيديه لعدسات كاميرات الحرب.. كمن يلوّح لدميةٍ سحرية قادمةٍ من كوكبِ الملكوت: طفل سعيد يرقص في مقدمة مأتم الحياة.. فيما الحياة خلفه تتأوّه وتبكي وتتعثر.
وهكذا أمكنني أن أطلّ على الحرب.. كمن يطل على قيامة الخليقة من برجِ مرصدٍ سماوي:
جنازة كونية يديرها جهابذة الموت.. وطفل غشيم يضحك.
رأيت البراءة، وحيدةً، ضعيفة، عمياء، مغلوبةً، عاجزةً ومنتهكة: رأيت الحرب. وكأنما، للمرة الأولى، أوجعتني آلام الحرب. للمرة الأولى بكيت من الحرب.
تلك هي الحرب إذنْ: جنازة الحياة تمشي.. خلف طفل وحيد يضحك.
على أنها ليست حرباً.. تماماً كما أنه ليس حضيضاً؛ ذلك لأن الحياة تكشف لنا في كل يوم عن حرب أشدّ هولاً، وحضيضٍ أعمق من أي حضيض:
الحياة كريمة كالجنون.
الحياة كريمة في ما تُغدقه من هدايا الموت.
الحياة ميدانٌ لصناعة الموت.
أبداً، ليست حرباً. وأبداً، لا تشبه الحروب: جنون يتقدم، وموتى يهللون لصانعي الموت، وحياةٌ تنتحب على جثمان نفسها.
حرب ليست كالحروب:
يستيقظ الجنرال البربري، فيغتسل.. وينظف أسنانه من الدم القديم.. ويعلّق ابتسامته تحت أنفه.. ويقبّل أطفاله وامرأته (نيابة عن جميع أطفال الدنيا ونسائها) ثم يمضي إلى مكتب الحرب.. مكتبِه في كاتدرائية الحرب.
وفي مكتبه، ذاك الذي في كاتدرائيةِ الحرب، يلقي الجنرال السعيد تحية الصباح السعيد على سكرتيرته السعيدة التي هي غالباً سكرتيرةُ فِراشٍ وحرب. ثم يدخل الحرب (في موعد الحرب تماماً: الثامنة على سبيل المثال) يدخلها كمن يدخل إلى صالة موسيقى: لا يرى خوفاً، ولا ألماً، ولا دخاناً، ولا دموعاً، ولا موتاً، ولا.. حرباً. نه فقط: يصنع الحرب.
يحارب عبر الهاتف القمري، عبر الشاشات، عبر الأثير السماوي، عبر إحداثياتٍ مشَفّرةٍ لا وجود لها إلا في أدمغة الحواسيبِ ومفكّراتِ القتلةِ ومناظير الفلكيين المحدَثين.
يتثاءب ويحارب.
يدخن ويحارب.
يتناول وجبة غدائه.. ويحارب.
يدغدغ فخذي عشيقته وهو يحارب.
يدخل إلى المرحاض وهو يحارب.
يكتب أشعاره العاطفية على مفاتيح البيانو وهو يحارب!…
ولكنه، في جميع الأحوال، لا يعرف خوف الحرب ولا يشكو من آلام الحرب.. لأنه لا يرى الحرب: إنه يقرأها، ويكتبها، ويدير مفاتيحها.. لا أكثر.
إنه، باختصار شديد، يريد أن يقوِّم اعوجاج العالم باقتلاع قلبِ العالم ويديه ورجليه وأحشائه: يريد أن ينظف الحياة من نفسها.
القتلة، واللصوص، والمشعوذون، والبرابرة (البرابرةُ القديسون)، يريدون أن يداووا شقاء البشر ويضبطوا ميزان العدالة على الأرض.. باغتيال الأرض!
تروي الحكاية الشعبية الصينية أن مشعوذاً ادّعى مقدرته على شفاء تشوّهات العمود الفقري ومعالجة “حدبات” الناس. وذات يوم جاءه رجلٌ أحدب وغشيم، فما كان من المشعوذ إلا أن بطحه على لوح خشبي، ووضع لوحاً آخر فوق الحدبة. ثم راح يقفز فوق اللوح بكامل عزيمته ويقينه.
وهكذا استقامت حدبةُ الرجل، لكن الرجل كان قد مات.
وفي دفاعه عن نفسه أمام القاضي قال المشعوذ: إن عملي يتعلق بتقويم حدبات الناس.. لا بشفائهم من الموت.
*
وها هم، هنا وهناك، يعالجون حدبة العالم: ها هم يعالجون حدبة الحياة.
ها هم، هنا وهناك، يُصحّحون مسار الأرض بالقذائف، ويداوون التعاسة بأكاسير الموت. لعلكم تعرفون من أعني.
أما أنا فأعرف أيضاً.. ولكنني لا أجرؤ على الإفصاح. أنا الآخر لديّ حدبة سوداء في قلبي، وأخشى أن يعالجوها بحوّامات الملكوت، والصواريخ فائقة النباهةِ والحنان، وأملاحِ ديموقراطية البغاءِ والجنون: أنا رجل أحدبٌ وجبان.
أحدب، ضعيف، خائب، حزين، وجبان. لكنني لا أزال، من مرصدي فوق سقف الإسطبل الكونيّ، أطل على خرابةِ هذا العالم الطائش، لا لكي أتفرّج.. وإنما (كما قال الشاعر النرويجيّ “تور ألفن”) لكي أتقيأ وأبصق.
……………..
(*) كُتبَت هذه “الصرخة” قبل ربع قرن من الآن (تحديداً في ربيع العام ” 1999″)، وسيناريو العار والجنون لا يزال سارياً ويتكرّر.