منذ صباح السبت الواقع فيه 7 تشرين اول أكتوبر 2023 والاشتباكات دائرة بين فصائل المقاومة الفلسطينية وقوات الاحتلال الإسرائيلي في سابقة لم نشهد مثلها من قبل.
فهذه هي المرة الأولى التي تقوم فيها هذه الفصائل بالمبادرة بهجوم مباغت في عمق الأراضي المحتلة في العام 1948 مفاجئة قوات الاحتلال. وهي المرة الأولى التي يتمكن فيها المقاومون الفلسطينيون، من الاستيلاء على عشرات المستوطنات في منطقة غلاف غزة لتجد قوات الاحتلال نفسها في موقف الدفاع عن العمق الصهيوني لأول مرة في تريخ الصراع العربي الإسرائيلي الذي اندلع في العام 1948.
كذلك فإن هذه المواجهة أوقعت حتى الان ما يقارب من 750 قتيلا بما يتجاوز الخسائر الإسرائيلية خلال اجتياح لبنان بين حزيران وأيلول 1982، علما ان العدد مرشح للارتفاع، كما انها المرة الأولى منذ حرب العام 1973، بين مصر وسورية وعدد من الدول العربية من جهة وإسرائيل، التي يقع فيها مئات الاسرى الإسرائيليين في قبضة طرف عربي هو فصائل المقاومة الفلسطينية، علما ان هجوم فصائل المقاومة انطلقا من غزة حدث في الوقت الذي تحتفل فيه مصر وسورية بالذكرى الخمسين لحرب تشرين أكتوبر.
وفي الوقت الذي لا يزال غبار المعركة متصاعدا، ما يجعل بالتالي إطلاق احكام سابق لاونه، الا ان الرأي العام الإسرائيلي يبدو مجمعا على ان هنالك كارثة حلت بإسرائيل. ولتحليل أسباب هذه “الكارثة” التي المت بإسرائيل فإنه يجب الاعتراف بأن فصائل المقاومة الفلسطينية، التي اتخذت من غزة قاعدة لها منذ العام 2007، استطاعت تطوير أدائها على مدى عقود من المواجهة مع جيش الاحتلال. وقد جاء ذلك بالتعاون مع حزب الله في لبنان وبدعم من ايران التي كانت المزود الرئيسي بالمال والسلاح المتطور من صواريخ ومسيرات بالاضفة الى وسائل المواجهة الالكترونية لكافة الفصائل المنضوية بمحور المقاومة.
لكن المحللين العسكريين الاسرائيليين المستقلين بدأوا بالحديث عن ثغرات وقع فيها الجيش الإسرائيلي والأجهزة الأمنية الصهيونية بما يشبه الحديث عن “التقصير” الذي اتهمت به رئيسة الحكومة الإسرائيلية الراحلة غولدا مئير وقيادات الجيش وأجهزة الشاباك والموساد عقب الهزيمة التي منيوا بها في العام 1973. وقد بدأت وسائل الاعلام الإسرائيلية المعارضة مثل هآرتس بالقاء اللوم على بنيامين نتيناهو بالدرجة الأولى لمسؤوليته عن هذه الكارثة.
وان كانت مسألة اكتشاف أوجه القصور التي وقعت بها قيادة الجيش وجهازي الشاباك والموساد او حتى الحكومة في ساءة تقدير الموقف تحتاج توقف المعركة وتشكيل لجنة مختصة تدرس أوجه هذا القصور كما حدث في اعقاب حرب العام 1973 او حرب لبنان الأولى في العام 1982 والثانية في العام 2006، الا ان تحديد المسؤولية السياسية لنتنياهو تبدو أسهل مما يمكن ان نتوقعه.
وقد تعود المسؤولية الرئيسية لبنيامين نتنياهو على المدى القصير، المرتبط بالسنوات الخمس الماضية، الى دفعه النخبة السياسية الإسرائيلية الى حالة انقسام غير مسبوقة في تاريخ الكيان الصهيوني. فنتيجة تورطه بالفساد فإنه سعى بأي شكل لأن يبقى في سدة الحكم بما أدى الى مناورات سياسية تخللها ضرب لخصومه تحت الحزام، ما ساهم في حالة لا استقرار سياسية طويلة الأمد أدت الى اجراء إسرائيل لخمس انتخابات تشريعية في خمس سنوات أدت الى تشكيل حكومات ضعيفة غلبت عليها التسويات السياسية على حساب امتلاك رؤيا ومشروع للحكم.
هذا جرى في تل ابيب في ظل عالم شرق أوسطي يشهد تحولات جذرية في اطار التحولات الدولية العميقة، مثل بروز قوى منافسة لهيمنة الولايات المتحدة في العالم مثل روسيا والصين، وبروز قوى إقليمية معارضة للولايات المتحدة في الشرق الأوسط وعلى رأسها ايران، عدا عن الدور الذي تحاول بعض الدول لعبه على هامش لتناقض بين واشنطن والقوى الاوراسية، مثل الامارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية، في ظل تقارب مصري روسي.
وعوض ان تكون النخبة الإسرائيلية مركزة على الدور الذي يجب ان تلعبه لتتحول قوة إقليمية ريادية كما تريد لها واشنطن، فإن الحكومات التي شكلها نتنياهو وخصومه في السنوات الخمس الماضية التهت بتسويات مع أحزاب اليمين الدينية منحتها خلالها امتيازات عدة من ضمنها منح للمدارس الدينية واعفاء للمتدينين من الخدمة العسكرية والتركيز على إرضاء المستوطنين على حساب أي مكسب او تنازل او منح لحق من الحقوق للفلسطينيين ما أدى الى تعرية السلطة الفلسطينية وعزلها عن الشعب الفلسطيني، لنشهد تصاعدا كبيرا للمقاومة في الضفة الغربية. وما زاد من تردي الأوضاع في صفوف النخبة الإسرائيلية هو مشروع تعديل القانون الأساسي للكيان العبري بما يجعل المحكمة الإسرائيلية العليا تحت سيطرة البرلمان، حتى يضمن نتنياهو عدم محاكمته بتهم الفساد. وهذا تسبب بأزمة عميقة في الكيان لاسرائيلي انعكس احتجاجات ضخمة انطلقت منذ عام ضد نتنياهو واثرت على الجبهة الداخلية وعلى انضباطية وتماسك الجيش الإسرائيلي.
اما على المدى الابعد فإنه يمكن القاء اللوم على نتنياهو في افشال عملية لسلام برمتها مع العرب. وهذا يعود الى ما قبل تشكيله لأول حكومة له في العام 1996 حين تزعم المعارضة الإسرائيلية في العم 1995 ضد حزب العمل ورئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق اسحق رابين. وقد عارض نتنياهو عملية السلم برمتها بتشجيع من لمحافظين الجدد في الولايات المتحدة لذين اصدروا وثيقة بعنوان “كلين بريك” او البتر التام مع مسار عملية السلام موعزين اليه بأن منطقة الشرق الأوسط مقبلة على تغييرات جيوسياسية ستجعل من إسرائيل قائد للمنطقة على حسب معظم الدول العربية لتي ستخضع للتقسيم في اطار إعادة رسم الجغرافيا السياسية للمنطقة العربية.
بناء على ذلك، فإن نتيناهو اعلن معارضته لرابين متهما إياه بخيانة إسرائيل ما حفز يميني متطرف هو يغال عمير الى اغتيال رئيس الوزراء في تشرين ثاني نوفمبر 1995. وبعد فوزه بانتخابات العام 1996 وخلال وليته الأولى حتى العام 1999، فإن نتنياهو سعى لتخريب السلام مع الفلسطينيين والذي كان قد وقع في العام 1993 ما أدى الى تدحرج الأمور بعد ذلك واندلاع لانتفاضة الثانية في العام 2000. وبعد عودته الى رئاسة الوزراء في العام 2009 فإنه كان على علم بالمخطط الأميركي لاحدث التغيير الجيوسياسي في المنطقة ولذي سيتجلى في الربيع العربي لذي اندلع في العام 2011. لذلك فهو سعى لعرقلة لتقدم على مسار السلام مراهنا على نجاح المشروع الأميركي.
لكن في هذه الاثناء كانت قوى دولية منافسة للولايات المتحدة مثل الصين وروسيا قد ظهرت على الساحة بما حد من حرية لمبادرة لتي تمتعت بها واشنطن لعقدين بعد انهيار الاتحاد السوفياتي في العام 1991. وقد سعت هذه القوى للتحالف مع خصوم للولايات المتحدة في الشرق الأوسط ما جعلها تتجه لخطب ود ايران وسورية، فكان الحضور الروسي في ارض سورية بعد العام 2015، وكان طرق الصين لابواب طهران وصولا الى اعلان لعلقة الاستراتيجية بينهما في العام 2020. هذا شد من عضد القوى المعارضة للتسوية مع الكيان الصهيوني ما انعكس دعم كبير لفصائل المقاومة الفلسطينية شهدنا مفاعيله في العمل العسكري النوعي لهذه الفصائل بدء من فجر لسبت في 7 تشرين اول أكتوبر. كذلك فإن هذ عرقل تقدم التسوية مع قوى كانت راغبة فيها وعلى رأسها المملكة العربية السعودية.
كل هذا اوصلنا الى للحظة التي نحن فيها والتي ستشهد تحميلا لنتنياهو لمسؤولية الكارثة التي وقعت فيها إسرائيل بما ينذر بأزمة سياسية ستمتد طويلا ويكون من نتائجها نهاية نتنياهو سياسيا.