قراءات سياسية فكرية استراتيجية

روسيا تعود شريكة للولايات المتحدة في عملية السلام … من بوابة غزة

في السابع من تشرين أول أكتوبر 2023 قامت حركة حماس ومعها حركات المقاومة الفلسطينية بهجوم على القواعد والمستوطنات الإسرائيلية في منطقة غلاف غزة محققين سابقة في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي. فلقد شكل هذا الهجوم سابقة لجهة نقله المعركة الى العمق الصهيوني، حيث شهد العالم اجمع عددا من المقاتلين لا يتجاوز الالفين يقتحم جبهة يرابط فيها عشرين الف جندي إسرائيلي مجتاحا عشرات القواعد والمستوطنات وقاتلا واسرا مئات الجنود والمستوطنين.
لم يشكل هذا فقط ضربا للعقيدة الأمنية الصهيونية القائمة على تجنب القتال الدفاعي ونقل المعركة الى ارض العدو، وضربا لعقيدة الامن القومي الصهيوني التي تقوم على تأمين ملاذ آمن لليهود، بل إن ما قمت به فصائل المقاومة وجه ضربة لمشروع الشرق الأوسط القائم على قيادة إسرائيلية للنظام الإقليمي في المنطقة بشراكة مع أوروبا الواقعة تحت الهيمنة الأميركية والهند المحكومة من قبل حزب هندوسي متعصب معاد للاسلام وبعض الدول العربية مع تهميش لدول عربية وإسلامية كان لها دور في مواجهة الغرب عبر مراحل تاريخية مختلفة مثل العراق وسورية ومصر وايران وتركيا. علما ان الولايات المتحدة كانت قد اطلقت التطبيق العملي لهذا لمشروع عبر الطريق الهندي الشرق اوسطي الأوروبي خلال اعمال قمة مجموعة العشرين التي عقدت قبل أسابيع في الهند.
والجدير ذكره ان الممر الهندي الشرق اوسطي الأوروبي لا يهدف فقط الى تأمين هيمنة الولايات المتحدة على المنطقة وجعلها قاعدة لانطلاق سياسات تهدف لاحتواء نفوذ الصين وروسيا المتصاعد، بل إنها تهدف أيضا الى اطلاق مبادرة من شأنها محاصرة اوراسيا من الجنوب والغرب عبر منع روسيا والصين من الوصول الى المحيط الهندي من جهة والى شرق المتوسط من جهة أخرى. لذلك فإن جزءا من هذه المبادرة كان يستهدف ضرب مبادرة حزام وطريق الصينية لتي تهدف الى ربط شرق اسيا باوروبا عبر شبكة طرق برية وبحرية تمر في قلب وحول اوراسيا، وطريق شمال جنوب الروسية التي من شأنها ربط روسيا بالهند عبر أذربيجان وايران.
لذا فإن الصين وروسيا وجدتا نفسيهما معينتان بما يجري في غزة ليس فقط من منطلق انساني نتيجة ما يتعرض له المدنيون الفلسطينيون هناك، بل أيضا من منطلق ان ما يجري هناك من شأنه عرقلة تطبيق مشروع في المنطقة يستهدف نفوذهما وأمنهما القومي. فوفقا للمشروع الأميركي فإن إسرائيل يجب ن تكون قاعدة للنظام الشرق الاوسطي، وبالتالي على هذه القاعدة ان تكون صلبة. وحتى تكون صلبة فإن على إسرائيل ان تكون “صلبة جغرافيا” وذلك عبر دعمها في مسعاها للسيطرة الكاملة على ارض فلسطين التاريخية، وان تكون “صلبة الهوية” عبر ففرض هوية واحدة لها وهي الهوية اليهودية للدولة. عدا عن أن هذه القاعدة لا يجب أن تكون مهددة بحركات مقاومة في غزة او الضفة او جنوب لبنان. لذا فإن رئيس الوزراء الاسرائيلي كان ينوي توجيه ضربة لغزة تؤدي الى قسم ظهر المقاومة الفلسطينية وتدفع سكان غزة الى النزوح الى سيناء لاقامة وطن بديل لهم. وكان من المفترض ان يتبع ذلك ضربة في الضفة الغربية تدفع الفلسطينيين الى النزوح الكثيف الى الأردن وبذلك يتحقق هدفا السيطرة الجغرافية على الإقليم وفرض هوية واحدة هي اليهودية. بعد ذلك كان من المفترض ان يلي ذلك عدوان واسع على لبنان يؤدي الى القضاء على حزب الله.
أمر هذه الضربة وصل الى قادة حماس الذين وجدوا ان عليهم استباق الأمور وتوجيه ضربة احترازية قبل انتهاء احتفالات إسرائيل بعيد الغفران اليهودي، اذ انهم كانوا يتوقعون ان تأتي الضربة الإسرائيلية فور انتهاء الاحتفالات اليهودية. وعبر الهجوم الذي قادوه، فإن المقاومين الفلسطينيين لم يوجهوا ضربة استباقية فقط، بل انهم وجهوا ضربة للمشروع الأميركي برمته. هذا يفسر لماذا جاء الرئيس الأميركي الى تل ابيب، وهي المرة الأولى التي يزور فيها رئيس أميركي إسرائيل وهي في حالة حرب، وذلك لأنه شعر ان الضربة كانت موجهة أيضا الى المشروع الأميركي برمته.
وهذا أيضا ما جعل روسيا تشعر بأنها معنية مباشرة بما يجري. فالضربة التي وجهها المقاومون الفلسطينية ساهمت بافشال مشروع شرق اوسطي كان يستهدف الامن القومي الروسي. لذلك فإن الرئيس الروسي انتهز الفرصة ليعلن ان تصاعد المواجهة في الشرق لاوسط جاء نتيجة عقود من سوء إدارة الولايات المتحدة بملف الصراع العربي الإسرائيلي. وهو بذلك لم يعن فقط المرحلة التي تلت انهيار الاتحاد السوفياتي في لعام 1991 ولتي استغلتها لوليات المتحدة لتطرح نفسها راعيا وحيدا للتسوية لعربية السرائيلية عبر مفوضت مدريد لتي انطلقت في لعام 1991 وما تلها، بل هو عنى أيضا لمرحلة الممتدة من العام 1972، حين طرد الرئيس المصري أنور السادات الخبراء السوفيات من مصر، والتي تلاها توقيعه لاتفاقية فصل القوات المصرية الإسرائيلية في العام 1974 بعد حرب تشرين 1973، والتي اعلن بعدها ان الولايات المتحدة تمتلك 99 بالمئة من أوراق الحل بالمنطقة. ولقد كانت هذه الذريعة هي التي استخدمها السادات لتوقيع صلح منفرد مع إسرائيل في العام 1979 والتي شكلت ضربة قاصمة للنفوذ السوفياتي في الشرق الاوسط.
اذن فإن ازمة غزة اتاحت للرئيس الروسي الفرصة ليطرق باب عملية التسوية في المنطقة مطالبا بحصة لروسيا من هذه العملية. وبغية تثبيت هذا المطلب فإنه اطلق موقفا اخر اعتبر فيه أن الحصار الذي تفرضه إسرائيل على غزة يشبه الحصار لذي فرضته المانيا النازية على لنينغراد خلال الحرب العالمية الثانية. وكان في هذا التصريح اكثر من إشارة يجب التوقف عندها. فالرئيس الروسي رفع سقف خطابه التأنيبي لإسرائيل عبر تشبيهها بألمانيا النازية، معتبرا ان ما يرتكبه جنودها من افعل يشبه ما ارتكبه النازيون بحق ضحاياهم اليهود وغير اليهود. كذلك فلقد كان للإشارة الى حصار لنينغراد استحضار الرئيس الروسي لتجربة معاناة شخصية. فالمعروف أن عائلة الرئيس والد ووالدة بوتين كانا من ضمن المحاصرين في المدينة طوال أربعة أعوام. إضافة الى ذلك فإن اخوة لبوتين ماتوا صغارا نتيجة الحصار وأنها ولد بعد خمس سنوات على نهاية الحرب بعدما كانت والدته قد يئست من الانجاب مرة أخرى، في قصة فيها ما يشبه قصصا كثيرة للفلسطينيين المحاصرين في غزة. لذا فإن استحضار بوتين لحصار لنينغراد ومقارنته بحصار غزة يعني ان الرئيس الروسي يشعر نفسه معنيا شخصيا بهذه القضية.
اضافة الى ذلك، فإن الرئيس الروسي اطلق تصريحا اعلن فيه ان روسيا معنية في الصراع الدائر في المنطقة، اذ انها ترفض ما يتعرض له الفلسطينيون من جهة كما تشعر بنفسها معنية بما يتعرض له الاسرائيليون خصوصا ان بينهم قسم كبير ممن هاجر من روسيا زمن الاتحاد السوفياتي. وبذلك فإن الرئيس الروسي لا يعلن فقط بأن بلاده معنية بالصراع، بل هو ينتزع حصة من الوصاية التي تفرضها واشنطن على إسرائيل. ولقد اعتبر الرئيس الروسي ان الحل يكمن بالعودة الى قرارات الامم المتحدة القاضية بإقامة دولة فلسطينية في الضفة االغربية وغزة وهو ما يشكل ضربا لتحويل سرائيل قعدة لنظام اقليمي شرق اوسطي تحت الهيمنة الأميركية، وبنفس الوقت يضمن حلا سلميا تكون إسرائيل فيه دولة مساوية للدول الأخرى في المنطقة.
لذا فإنه عند انتهاء الازمة في غزة فإن مشروع الشرق الأوسط الأميركي يكون قد تعرض لضربة قاصمة، ما سيفتح الباب وسعا لعودة روسيا كشريك في عملية السلام، في قلب للمشهد الذي ساد في المنطقة طوال العقود الخمسة الماضية.

اقرأ المزيد
آخر الأخبار