حين كتب روبرت كابلان في مطلع التسعينيات عن “انتقام الجغرافيا”، كان يحذّر من وهم نهاية التاريخ الذي روّج له فوكوياما، وفي عصر الذكاء الصناعي، يبدو أن التاريخ لا ينتقم فقط، بل يُعاد هندسته، فالحروب لم تعد تُخاض على خرائط الأرض وحدها، بل على خرائط البيانات أيضا.
جوهر ما يقدّمه الجنرال الإسرائيلي يوسي شيرون في كتابه: “The Human–Machine Team” مقاربة ترى في التزاوج بين الذكاء البشري والذكاء الاصطناعي بنية استراتيجية جديدة للقوة والسيطرة، لا تقل ثورية عن اكتشاف البارود أو الطاقة النووية.
من الجندي إلى الخوارزم: تحوّل المفهوم العسكري
في قلب أطروحة شيرون تكمن فكرة “الفريق الإنساني–الآلي“ (Human–Machine Team)، وهي ليست مجازا تكنولوجيا، بل عقيدة عسكرية – سياسية ترى أن النصر في حروب القرن الحادي والعشرين لن يُحسم بالعدد أو السلاح، بل بقدرة الدولة على بناء “وعي مركب” يجمع بين الحسّ الإنساني والخوارزمية.
يتحدث المؤلف، وهو جنرال خدم في مؤسسات الدفاع الإسرائيلية، عن نموذج “الذكاء الفائق” (super-cognition) ) الذي يمكن أن يعيد تعريف مفهوم القيادة الميدانية.
فالمعارك الحديثة، كما في غزة تُخاض ضمن بيئة “غارقة بالبيانات” من صور أقمار صناعية، وإشارات حرارية، ومنشورات شبكية، وبيانات هواتف، وهذه الشبكة اللامتناهية من الإشارات تحتاج إلى عقل صناعي قادر على ربطها آنيا.
غير أن شيرون لا يرى في الذكاء الاصطناعي بديلا للإنسان، بل امتدادا له، هو يطرح نموذج “التحالف الإدراكي” بين الإنسان والآلة، حيث تعمل الأولى كـ”مُفسر أخلاقي” والثانية كـ”معالج استراتيجي”، وذلك ضمن مزيج يهدف إلى تسريع القرار من دون فقدان السيطرة الأخلاقية.
الجغرافيا الجديدة: من حدود الأرض إلى فضاء البيانات
ما يفعله شيرون هو إعادة تعريف الجغرافيا ذاتها، فالميدان لم يعد خط تماس بين جيوش، بل بين شبكات، وغزة في هذا التفكير ليست مجرد مساحة محاصرة بل مختبر استراتيجي لحرب هجينة تتقاطع فيها ثلاثة مستويات:
الحرب الميدانية التقليدية كالأنفاق، والصواريخ، والقصف.
الحرب السيبرانية والإعلامية من خلال التحكم في السرد والوعي.
الحرب المعرفية يوجه القرار عبر الخوارزميات والتحليل الآني للمعطيات.
في هذا الفضاء، تصير “الآلة” كما يرى شيرون أداة سيطرة على الإدراك الجمعي قبل أن تكون أداة تدمير، وهي الفكرة التي تذكّر بما يسميه كابلان بـ”السلطة الكامنة في البنية التحتية”، حيث من يمتلك القنوات، يمتلك المعنى.
“إسرائيل”، وفقا لهذه الرؤية، لا تخوض حربا ضد تنظيمات مسلحة فحسب، بل تجرب نموذجا مدمجا للذكاء العسكري الصناعي، حيث تتفاعل أنظمة المراقبة والطائرات المسيّرة والذكاء التحليلي في منظومة واحدة تشبه “الجهاز العصبي للدولة”.
إنها مرحلة ما بعد الدولة الجيوسياسية، ونحو الدولة الخوارزمية.
الأخلاق والسيادة: سؤال السيطرة في زمن الخوارزميات
السؤال الأخطر الذي يثيره شيرون، وإن بوعي عسكري براغماتي، هو: من يسيطر على من؟
هل الإنسان يقود الآلة، أم أن خوارزميات التنبؤ والقرار بدأت تفرض على الإنسان خياراته؟
في حروب مثل غزة، تتضح المعضلة حين تصبح الخسائر المدنية للأسف “نتائج حسابية” أكثر منها أخطاء أخلاقية، هنا يختلط الأمني بالأنطولوجي، فهل تظل الحرب عملا سياسيا كما أرادها كلاوزفيتز، أم تتحول إلى فعل تقني محض؟
في تصوره لمفهوم “السرعة المفرطة” (FAST – Foundations, Acceleration, Singularity Time)، يرى شيرون أن مستقبل الحروب سيكون محكوما بقدرة الأطراف على تقليص الفارق الزمني بين المعلومة والقرار.
وهذا ما يفسّر “السلوك الإسرائيلي” الأخير في غزة، فالعمليات اللحظية المبنية على تحليل فوري لبيانات ضخمة، مقابل تأخر الاستجابة الإنسانية أو السياسية في الجهة الأخرى.
الآلة هنا ليست أداة فحسب، بل زمن مواز للخوارزمية يسبق الزمن البشري ويعيد صياغته.
“الذكاء الصناعي” كإيديولوجيا أمنية
تتجاوز أطروحة “الفريق الإنساني–الآلي” البعد التقني لتصبح عقيدة أيديولوجية، فالكتاب يُعيد إنتاج سردية التفوق التكنولوجي بوصفها ضمانة وجودية للدولة.
منذ بن غوريون، شكّلت فكرة “التفوّق النوعي” عقيدة أمنية “إسرائيلية”، لكن مع الذكاء الاصطناعي يتحوّل هذا التفوّق من ميدان السلاح إلى ميدان الإدراك ذاته.
يقول شيرون إن على القادة أن “يعيدوا بناء الإنسان ليتلاءم مع الآلة”، وهي عبارة تختصر تحوّلا خطيرا في تصور السلطة، فالسيادة لم تعد تُمارس على الأجساد بل على العقول، عبر هندسة السلوك والتنبؤ به.
من هنا يمكن فهم اتساع دور شركات التقنية العسكرية الإسرائيلية، مثل Elbit وRafael، التي باتت لا تبيع سلاحا فحسب، بل أنظمة وعي كاملة تُصدر لدول غربية وعربية على السواء.
المعنى الجيوستراتيجي: من “القوة الذكية” إلى “الذكاء كقوة“
تقدّم حرب غزة مثالا صارخا على التحول من القوة الذكية (Smart Power) إلى الذكاء كقوة (Intelligence as Power) ، فالذكاء الاصطناعي، كما يشرحه شيرون، لا يُستخدم فقط في تحليل الميدان، بل في تصميمه، فهو من يحدد أين يبدأ الميدان وأين ينتهي، ومن هو العدو و”التهديد المحتمل”، بل وحتى أي خبر سينتشر وأيّ صورة ستُمحى من الوعي الجمعي.
يصبح الذكاء الصناعي بنية فوقية للإمبراطورية المعاصرة، فالإمبراطوريات لا تزول بل تتبدل أشكالها، ومن السيطرة العسكرية إلى السيطرة على الزمن والمعلومة.
و”إسرائيل” التي طالما رأت في الأمن وجودا، تنتقل اليوم إلى طور جديد حيث يصبح الأمن خوارزميا، لا جغرافيا.
الدروس الجيوسياسية: النظام الدولي عند حافة “ما بعد الإنسان“
ما يقترحه شيرون يتجاوز البعد “الإسرائيلي المحلي”، فيطرح رؤية لعالم يعاد تشكيله بين قوى الذكاء الصناعي الكبرى؛ الولايات المتحدة، والصين وروسيا.
فمن يملك القدرة على دمج الإنسان بالآلة، يملك مفتاح التفوق الحضاري في القرن الحادي والعشرين، فهو سباق نحو “الفرادة” (Singularity) لا يختلف في عمقه عن سباق التسلح النووي في القرن العشرين، غير أن خطورته تكمن في أن السيطرة هذه المرة ليست على البيئة المادية بل على البنية الإدراكية للبشرية.
حرب غزة، في هذا الإطار، ليست سوى عتبة تطبيقية لحروب الغد، فهي نزاعات تُخاض في فضاء مركّب من الأرض والبيانات، حيث تصبح الخوارزميات نفسها أطرافا في الصراع.
نحو “أخلاقيات جديدة للذكاء الصناعي“
ورغم طابع الكتاب العسكري البارد، يمكن استشعار قلق فلسفي دفين في ثناياه، فالجنرال الذي يكتب عن “تحالف الإنسان والآلة” يعي ضمنيا أن هذه الشراكة تنقلب إلى تبعية.
وفي سياق حرب غزة، يتجسد هذا القلق في فقدان الحس الإنساني أمام التدفق الحسابي للقرارات، فإن التحدي الجيوستراتيجي الحقيقي ليس في تسريع القرار بل في إبطائه قليلا، لإفساح المجال للأخلاق كي تتنفس.
بين كابلان وشيرون – أين يقف الإنسان؟
لو كان روبرت كابلان بيننا اليوم، لربما قال إن “الذكاء الاصطناعي هو الجغرافيا الجديدة”، وإن الحدود المقبلة لن تُرسم على الرمال بل على الشاشات.
أما شيرون، فيضيف من موقعه العسكري أن البقاء في هذا العالم مرهون ببناء “فريق إنساني–آلي” متكامل.
لكن السؤال الذي يظل معلّقا: ماذا لو قررت الآلة يوما ما الانفصال عن الفريق؟
إن المقاربة التي يقدمها الكتاب لا تُقرأ بوصفها مديحا للتكنولوجيا بقدر ما هي تحذير من تحوّلها إلى بنية سيطرة كلية.
وفي ظل حرب غزة وما تكشفه من تحول طبيعة الصراع، يبدو أن العالم يقترب من مرحلة ما بعد الإنسان السياسي، حيث تُعاد صياغة القرار في مختبرات الذكاء الصناعي، ويصبح السؤال ليس من يملك الأرض، بل من يملك الخوارزمية.
الآلة والعقل: تطور مفهوم القوة في عصر الذكاء الاصطناعي

الرسم البياني التفاعلي يوضح تطور مفهوم القوة في عصر الذكاء الاصطناعي
انقر على الأقسام المختلفة في الرسم البياني لمعرفة المزيد عن كل مفهوم. استخدم الأزرار أعلاه لتصفية المحتوى حسب الموضوع.
الفريق الإنساني–الآلي: خريطة القوة في حرب غزة
ملخّص بصري للمقال التحليلي حول الذكاء الصناعي وتحول القوة الجيوسياسية في زمن حرب غزة.
المصدر: سوريا الغد